ليلة السابع من أكتوبر/تشرين أول 2023 كنت غاضبًا من كل شيء، بما في ذلك أسرتي ومحيطي، فأغلقت باب الغرفة على نفسي مصطحبًا كأسًا كبيرة نسبيًا من القهوة المرّة، ورواية استعرتها من المكتبة العامة، وهي “1984” للكاتب البريطانى “جورج أورويل”، واسمه الحقيقي “إريك بلير”؛ ومع أنني لم أجد في الرواية تلك الهالة العظيمة التي وضعها بعض النقاد حولها، فإنها رواية مميزة بالتأكيد.
Thank you for reading this post, don't forget to subscribe!قبل الإمساك بالرواية ليلتها، أمسكت بهاتفي النقّال وفصلت خدمة الإنترنت، لكن هذا لا يكفي، وفعّلت نظام الطيران حتى لا أتلقى أي اتصال من أي كان.
أبحرت في صفحات الرواية، شربت كأس القهوة بسرعة، لا رشفة رشفة كما في الدراما وبعض الروايات.. أكثر من 70 صفحة قرأتها في زمن قصير نسبيًا، استسلمت للنوم، واستيقظت لصلاة الفجر دون منبه، ودون إيقاظ من زوجتي أو غير ذلك.
أأفتح الجوال لأطلع على الأخبار؟ كلا، عليّ قراءة بعض الأوراد والأذكار بعد الصلاة.. النوم غلبني من جديد.
حتى الاستمتاع بالقراءة صار شيئًا من تاريخي الشخصي، ومثله الشغف بمطالعة الكتب المختلفة؛ فالعبد الفقير لم يؤتَ مهارة الألعاب الرياضية، خاصة كرة القدم، ولا يكترث بمتابعة الفعاليات الرياضية أو الفنية
فتحت الجوال وأعدت تفعيل خدمة الإنترنت، وأخذت أتصفح بعض المجموعات في تطبيقي تليغرام وواتساب كانت تحديثات العواجل تترى، مع إعلان عن كلمة مسجلة للقائد محمد الضيف، فأدركت عندها أن الحدث عظيم والهجوم كبير.
إلى التلفزيون أسرعت أتابع قنوات الجزيرة والأقصى وغيرها سريعًا، وأوقظ من لا يزال نائمًا من الأسرة، التي نمت غاضبًا منها وعاتبًا عليها.
ما الداعي لهذا الكلام الآن، وذكرى السابع من أكتوبر/تشرين الأول لم تحل بعد، وإن كانت اقتربت؟ هل تريد أن تحكي لنا قصة حياتك وتفصيلات يومك؟ ما الفائدة من هذا السرد؟. لست أدري صدقًا، ولكني أردت أن أستذكر ما تكرر بطريقة أخرى هذه الأيام، أو عند كتابة هذه التدوينة.
بالعودة إلى رواية “1984”، فقد استغرقت قراءتها كاملة (بعد 70 صفحة في جلسة قصيرة) وقتًا طويلًا، لا أتذكره، ولكنه طويل على غير المعتاد، وهذا طبيعي ربما في خضم الحالة النفسية مع متابعة أخبار المجازر في غزة.
حتى الاستمتاع بالقراءة صار شيئًا من تاريخي الشخصي، ومثله الشغف بمطالعة الكتب المختلفة؛ فالعبد الفقير لم يؤتَ مهارة الألعاب الرياضية، خاصة كرة القدم، ولا يكترث بمتابعة الفعاليات الرياضية أو الفنية، ولا يتذكر من ألعاب الورق (الشدّة أو الكوتشينة بالمصري) إلا “الباصرة” التي لعبها منذ زمن طويل، وترك لعبة الشطرنج مع أنه أحبها قليلًا.
وقد كان شغفه وهوايته المفضلة قراءة المطبوعات من الصحف والمجلات والكتب المختلفة، وكان يجد راحة نفسية لا توصف عند النظر إلى الكتب على الرفوف، وتصفح ما يحلو له منها (عرفت مؤخرًا أن هذه الحالة تسمى ببلومانيا). لكن هذا الشغف والاستمتاع في ظل الظروف التي تعيشها البلاد ذهب دون بديل حتى الآن، وللتذكير فإن جنين مع مخيمها منذ قبل حرب غزة بسنتين تشهد تصعيدًا ومواجهات وشهداء، بيوت عزائهم لا تكاد تغلق.
هل ابتعدت عن السياسة فعلًا مع هذه الرواية؟ أنت تعلم أن غلافها السياسي أوضح من أن يغيب عن ذهنك.. صحيح، ولكن أردت الابتعاد قليلًا عن الحديث السياسي والميداني المباشر
كان – وما زال – الانخراط في متابعة الأخبار، والمشاركة في التعليق عليها على بعض وسائل الإعلام شغلًا شاغلًا، ولم تعد نفس المرء تطيق مشاهد المجازر في غزة التي تآمر عليها القريب والبعيد، أو مشاهد المعاناة المستمرة لأهلنا هناك. لكن هذا استهلاك أو استنزاف للروح، والنفس تحتاج إلى “شحن” لطاقتها المستنزفة كي تواصل وتستمر، وإلا تاهت أو فقدت اتزانها المتأرجح.
النفس التي لم تعد تجد لها متعة ولا سلوة، وتشعر بتأنيب ضمير لمجرد أنها ما زالت على قيد الحياة، أو تمارس حياة يومية هي رغم كل صعوباتها أفضل من حياة النازحين في (شبه الخيام) في قطاع غزة.
ومع التصعيد الدراماتيكي في جبهة لبنان، ومع تواصل المذبحة في قطاع غزة، وزيادة معاناة النازحين في الخيام بعد أول هطول للمطر، شعرت أن حجم وسيولة الأحداث كبير، وأن على المرء أخذ قسط من الراحة بشيء بعيد عن الأخبار… هل أنا محق في هذا؟ أهو هروب من الواقع؟. لا أراه كذلك، بل “إعادة شحن للبطارية”، خاصة لمن يكتب في السياسة، ويتحدث عن مجريات الأحداث لوسائل الإعلام.
ذهبت إلى الطيب صالح (رحمه الله)، وأمسكت روايته “موسم الهجرة إلى الشمال”، وكنت قرأتها أول مرة عندما كنت طالبًا جامعيًا فتـيًّا؛ إنها فرصة لاختبار المشاعر عند قراءة هذا النوع من الروايات بين زمنين، مع أن أحداثها – بل العديد من سطورها – ظلت محفوظة في ذاكرة كانت تتمتع بقوة أنا محسود ومغبوط عليها.
مهلًا، هل ابتعدت عن السياسة فعلًا مع هذه الرواية؟ أنت تعلم أن غلافها السياسي أوضح من أن يغيب عن ذهنك… صحيح، ولكن أردت الابتعاد قليلًا عن الحديث السياسي والميداني المباشر.
هل كان عليّ اختيار رواية أخرى كي لا أقع فيما أردت الابتعاد قليلًا عنه، أي السياسة والأخبار الدامية؟ ربما، ولكن هل أستطيع ذلك أصلًا؟
آه يا أيها الطيب صالح، ماذا عساك أن تكتب لو رأيت وطنك يمزق، ولو رأيت القرية السودانية – أحد أهم محاور روايتك هذه وأعمال أخرى لك – لم تعد تعيش حياتها الرتيبة وصراعاتها الصغيرة المعتادة، ولن تسمع فيها صوت ماكينات سقاية الأراضي وأصوات البهائم والطيور، بل ستسمع أصوات الرصاص والقنابل، وسترى مواكب التشييع لعشرات بل مئات الجثث لسودانيين قتلوا ظلمًا وغدرًا، وستسمع صرخات استغاثة من نسوتها وهن يتعرضن لاعتداءات وحوش بشرية.. ربما لو عشت لمت كمدًا دون أن تكتب شيئًا!
عالم السودان الذي رسمه الطيب صالح ببراعة جاذبة ولّى ليحل محله عالم آخر، وحتى نهر النيل ما عاد شيئًا عاديًا بعد سد النهضة.. هل نصيب البلاد الطيب أهلها طمع الأعداء وتآمر من يفترض أنهم أشقاء؟ ماذا يقول المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي؟ يقول بأن 26 مليون سوداني يعانون انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي.
هذا حال السودان اليوم بعد عقود من زمن غرق (مصطفى سعيد) وأرملته (حسنة)، إن سودان اليوم يعيش زمن (الدعم السريع).. مجازر ومجاعة وحياة لا أمن فيها.
هل كان عليّ اختيار رواية أخرى كي لا أقع فيما أردت الابتعاد قليلًا عنه، أي السياسة والأخبار الدامية؟ ربما، ولكن هل أستطيع ذلك أصلًا؟
هل كان ما قمت به مجرد مخاتلة، فشلت في إخراج النفس – ولو قليلًا – من أجواء وواقع يومي؟. يبدو كذلك، وعليّ العودة إلى نشرات الأخبار وتحديثات العواجل!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
2024-10-01 08:44:42